الخميس، 2 أبريل 2009

لم تنظر وراءها

لم تنظر وراءها
شارع أبو طالب بدار السلام ، هو أحد شوارع أربعة تودي إلى محطة مترو الأنفاق ، ويكتظ هذا الشارع بالمحلات المتلاصقة التي تبيع جميع أنواع المبيعات وأكثرها الملابس والأحذية ، كما يفترش رصيفيه الباعة الجائلون ، لذا فهو يعج بالبشر أناء الليل وأطراف النهار خاصة في شهر رمضان المعظم .
في أحد أيام هذا الشهر الفضيل ، الذي تكثر فيه خيرات الخيرين وتقل فيه سيئات العصاة والمذنبين ، وقبل آذان المغرب بلحظات كان بعض الباعة يتسابقون ليدرك كل منهم مكانا يبيع فيه بضائعه ، وأصحاب المحلات يقفون لهم بالمرصاد فلا يسمحون لأحد بأن يضع متاعه إلا لواحد من اثنين ، إما بلطجي لا يقدرون على سطوته وبأسه ، وأما مسكين يضطر لأن يدفع لهم ومقدما ما يسمونه فيما بينهم " أجرة فرشة " ، ومن بين هؤلاء كانت طفلة لا يزيد عمرها عن ثماني سنوات ، تحمل فوق رأسها الضعيف وجسدها الهزيل وملابسها الرثة قفصي ( عيش ) ، لا يقل وزنهما بحال من الأحوال عن ثلاثين كيلو على أقل تقدير ، تنظر يمنة ويسرة في خوف ووجل ورهبة ، تتلهف على مكان تضع فيه حملها الثقيل الذي ناء بحمله رأسها ، فاحمر من ثقله وجهها وتصبب العرق فوق خديها وقطرات من دموع بدأت تختنق في عينيها تلح عليها في التساقط والنزول إلا أنها تأبى لسبب بات حتى هذه اللحظة مجهول بالنسبة لي ، فينهرها الجميع ما بين متجهم في وجهها ، وما بين صائح لها في صوت غليظ ونظرة مرعبة ، وما بين واكز لها في صدرها أو كتفها ، فظلت تسير بحملها الثقيل مترنحة بين سيقان البشر ، حتى وجدت بطرف عينيها فسحة ضيقة في مكان بجوار بائع جائل يبيع بعض أنواع الفاكهة ، فهمت مجرد الهم ، وهي لا تعلم أن مجرد الهم هاهنا كبيرة من الكبائر ، في زمن كل الذنوب فيه كبائر ولا مكان فيه لمن يرتكب الصغائر ، أن تضع عن رأسها قفصي العيش ، ربما فرحا بوجود المكان ، وربما خذلتها يداها فأرادت أن تريحمهما ، وربما خارت قواها فتمنت مجرد أمنية أن تستريح ، فإذا بيد من خلفها تصفعها بكل قوة على مؤخرة رأسها ( قفاها ) ، فترنحت إلى الأمام ، حاولت أن تتماسك لتمنع حملها الثقيل من السقوط فلم تفلح ولم تقوى ولم تستطيع ، انحت ، ركعت ، سجدت ، بعد أن كانت قائمة في شمم وإباء ، فسقطت من فوق رأسها أقفاص العيش وتناثر الخبز في كل مكان ، ومعه تساقطت الدموع المختنقة ليبلل أرضا صلبة لم تكن بها قطرة من ماء ، فراحت تلملم الخبز من فوق الأرض وتنفض عنه التراب وتقبله لأنه ( نعمة ) ما ينبغي أن تمسها التراب أو تدوسها الأقدام ، فتضعه في القفص تعيد ترتيبه في سرعة وعجلة حتى لا يعود صاحب الخبز فيجده في هذه الحال فيضربها على ذات القفا ، وفاتها أو ربما لم تجد داع أن تمسح الدموع المنهمرة من عينيها ، ولم تجد من مساعد لها أو معين إلا بعض صبية صغار انحنوا مثلها فوق الأرض الصلبة ليجمعوا ( النعمة ) من على الأرض خشية أن تدوسها الأقدام أو يختلط بها التراب ، ثم جمعت ( عيشها ) ، ووضعته على القفص وواصلت مسيرتها دون أن تنظر وراءها ودون أن تكفكف دمعها .
وإلى هنا انتهى المشهد الذي لم يستغرق بي إلا ثوان معدودة ، واصلت بعدها بدوري مسيري إلى بيتي وأولادي وزوجتي ، وأنا أحمل لهم ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين في شهر المشهيات والملذات ، وثمة أسئلة راودتني وشغلت تفكيري ، ظل سؤال منها يلح على ذهني حتى أسقط الدموع من عيني ، لماذا لم تنظر البنت وراءها لترى ضاربها على قفاها ؟
إن أقل ما يمكن أن يفعله إنسان في هذه اللحظة أيا كانت سنه وأيا كان نوعه ، وقد فوجيء بضربة على قفاه سقط من شدتها على وجهه أرضا ، أن ينظر وراءه ليرى من ضربه . أما البنت فلم تنظر وراءها .
فلماذا لم تنظر هي وراءها ؟ أرقني السؤال وقض مضجعي ، إلى أن عرفت الجواب ، ألا وهو أن الجميع عندها سواء ، كل البشر في نظرها شخص واحد تعرف صورته جيدا ، وتعرف سمته وهيئته وشكله هو الذي ضربها ، كلهم يحملون قلبا واحدا هو كالحجارة أو أشد قسوة ، ويحملون عقلا واحدا هو الغباء والجفاء والغلظة ، ويد واحد هي يد البطش والقسوة والجبروت ،
هم واضعي القانون الذين سمحوا لطفل في مثل سنها بالعمل ، منفذي القانون الذين تركوا فتاة في مثل سنها بأن تعمل مثل هذه العمل في مثل هذه السن ، صاحب العمل الذي حملها مثل هذه المسئولية وحملها مثل هذا الحمل الثقيل . أبوها الذي سمح لها بالعمل ، أمها الأرملة أو المطلقة التي تركتها تعمل ، الفقر الذي دفع أبوها أو أمها لكي يسمحا لها بالعمل ، المنظومة الفاسدة في كل أجهزة الدولة التي آلت بها إلى هذا المآل ، التفاوت الطبقي بين البشر ، تسلط الأغنياء على الفقراء ، أصحاب المحال الذين منعوها من مكان تجلس فيه تبيع خبزها وعيشها ، المارة الذين كانوا ينظرون إليها دون أن يرحموا ضعفها وقلة حيلتها وهوانها على الناس ، الباعة أمثالها في المصير والحال الذين لم يرأفوا بها ويسمحوا لها بمكان بجوارهم ، هم كل هؤلاء وغيرهم ، وهم أنا وأنت وأنتم وهو وهي وهم وهن وهؤلاء وتلك وأولئك ... وووو
وتجسد كل هؤلاء في شخص واحد هو ضاربها على قفاها ، لذا لم تنظر وراءها